خطاب جلالة الملك عبدالله الثاني أمام مجلس العلاقات الخارجية الالماني
الأعضاء الكرام
أيها السيدات والسادة
أشكركم للترحيب الكريم. تسعدني العودة إلى برلين والانضمام إليكم.
كنت في زيارة مدينتكم قبل عام وكما تعلمون - كان عاماً حافلاً عام مواجهة الحقائق والتصدي للتحديات بدأنا حواراً عالمياً نحن بأشد الحاجة إليه حوار حول ما وصل إليه حالنا الراهن وإلي أين نتجه. وتجمعنا معاً في تحالف دولي ضد الإرهاب وضحىّ جنود ألمان، ضمن آخرين بأرواحهم في سبيل استعادة حريّة أفغانستان.
أطلق على دور القيادة الألمانية لقب "البعد الجديد للمسؤولية" لكني عندما أتمعن في الدور الخطير الذي لعبته ألمانيا خلال الحرب الباردة وعندما أفكر في ثورة الحرية التي ساهم الشعب الألماني بتحقيقها في هذه المدينة بالذات أحجم عن تسمية هذه القيادة "بالجديدة" آملاً أن تشعروا باعتزاز كبير بكل ما حققتموه.. وما تقومون به لجعل عالمنا هذا أفضل مما هو عليه.
يقف العالم الآن على حافة تحديات جديدة وتظل الحاجة كبيرة لتحمل المسؤولية العالمية. واليوم.. أود التحدث عن هذا بإيجاز. (إذا سنح لنا الوقت قد نفتح المجال أمام أسئلة وأجوبة) رأينا في العام المنصرم أمراً في غاية الوضوح: الشرق..والغرب.. والشمال.. والجنوب.. كلنا نتشارك بمصير القرن الواحد والعشرين ما من بلد أو منطقة يمكنها التمتع بفرص هذه الحقبة المتاحة وهي هائلة دون مواجهة مشاكلها ومخاطرها أيضاً.
الحاجة الملحة للتنمية محاربة شرور الإرهاب ولفكر المتطرف - إتاحة فرصة أوسع وأعمق للوصول إلى التقنية والتعليم وإنهاء احتلال فلسطين هذه التحديات الخطيرة وغيرها الكثير تواجهنا جميعاً. ويحتاج حلها إلى كل ذرة ستستغرق كل ذرة من من جهودنا بشكل متعاون..
إن التحدث بشأن هذه الشراكة العالمية لا يعني تقليص دور الأفراد والأمم بل على العكس منه إذ يزيد من وضوح أهميتها أن نضطلع جميعاً بالمسؤولية إزاء المستقبل الذي نتشارك فيه.
وهنا، اسمحوا لي أن أتحدث عن الأردن. منذ أكثر من نصف قرن كان استقرار بلدي السياسي واعتداله ذو تأثير تأثير إيجابي على منطقتنا الهامّة. اليوم، يوفر الأردن نموذجاً للإصلاح والديمقراطية وسيادة القانون نموذجاً يتيح لشعبنا فرصة التميز وأساساً لنموذج يحتذى-إذا جاز التعبير- لمستقبل أكثر استقراراً وأمناً في الشرق الأوسط كله.
الأردن الذي أمثل بلد فتيّ متنوع اجتماعياً وتقدمي. على الرغم من موارده الشحيحة وربما لاضطرارنا مواجهة هذا الشح خططنا طريق الإصلاح لمنطقتنا. وأبناء وطننا الشبان والموهوبون هم "ثروتنا النفطية" فالتعليم ، واكتساب المهارات، والتنمية البشرية هي "أنبوب نفطنا" نحو المستقبل.
بدأت عملية الإصلاح المنظمة منذ أكثر من اثني عشر عاماً وقبل ثلاث سنوات، بدأنا تسريع عملنا استجابة لإجماع وطني. ويشهد الأردن حالياً تغييراً رئيسياً في مختلف الحقول، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإدارية والقضائية والتعليمية، ونستعد الآن لرابع انتخابات برلمانية منذ عام 1989.
الهدف من هذه الجهود وغيرها واضح وهو تحقيق آمال الشباب في مستقبل أفضل، مستقبل يؤمن إنتاجية الأمة وازدهارها وحريتها ضمن مجتمع مدني يحمي الديمقراطية ويثمن التعددية (السياسية).
كان أمن ومستقبل شعب الأردن من أعمق التزامات والدي والتزاماتي أيضاً. وفي هذا - ينضم إلي الملايين من الأردنيين الذين يعملون على دفع عجلة تقدم أمتنا ونحن عازمون على النجاح.
لكنه من الوارد أيضاً أن يكون تأثير مصير بلدنا على أكثر من شعبنا وحده إذ أن نجاح نموذجنا سيثير العدوى والشيء ذاته ينطبق على فشلنا.. أرى لأوروبا دوراً هاماً بشكل خاص من خلال شراكتها معنا في دعم هذا النجاح.
ليس مصادفة أن يكون الأردن أول بلاد المشرق في توقيع اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي التي دخلت حيز التنفيذ في أيار الماضي تضم أهدافها تحرراً متتابعاً في التجارة والخدمات ونمو رأس المال التي تشكل بمجملها مفاتيح النمو الاقتصادي وتوافر الفرص. والخطوة المركزية في هذا الشأن هي التوصل بحلول عام 2010 إلى ترسيخ منطقة تجارة حرة بين الأردن ودول الإتحاد الأوروبي.
اسمحوا لي أن أعبر عن امتناننا لدعم الاتحاد الأوروبي في الفترة الانتقالية يسعدني أن أذكر أننا حققنا نجاحاً كبيراً في تحرير هياكلنا الاقتصادية نحن نعمل على إيجاد اقتصاد يضطلع فيه القطاع الخاص بمساهمة كاملة وتكون التجارة فيه مفتوحة وحرة ويتدفق فيه رأس المال الخاص. وقد باتت برامجنا الناجحة في الخصخصة مثالاً يحتذى. وبتنا ننظم انسيابية قطاعنا العام ونستمر بعمق كبير في تنمية مواردنا البشرية بما فيها رفع سوية مقاييسنا التعليمية والتدريبية لكن علاقتنا مع أوروبا تتخطى التعاون الاقتصادي والمعونة المالية. فالروابط الثقافية والسياسية والدينية والاجتماعية وأخرى عديدة هي مكونات علاقة استراتيجية ثابتة شراكة في القيم المتبادلة والمصير المشترك.
وليس من المبالغة في شيء أن نقول اليوم أنه ليس لأوروبا من شريك بأهمية دول غرب البحر الأبيض المتوسط. لهذا، يبدو لي، أننا بحاجة لأسلوب أقوى تنتهجه الشراكة الأوروبية المتوسطية. شراكة تعكس الروابط الهامة بين الجانبين أعتقد أن هذه الشراكة بحاجة للتطور من مجرد علاقة ارتباط إلى هيكلية ذات مغزى وتطلعات أبعد مدى.
وبكل تأكيد إذا ما قدر لجيران أوروبا الجنوبيين النجاح في تحقيق نماذج تنموية جديدة يجب أن تنهمك أوروبا أكثر في عملية التحول خاصة عملية فتح الأبواب للرفاه، والأمل لشبابنا، اليوم، نصف سكان العالم العربي دون الثامنة عشرة. شبابنا، مثل شبابكم، يتطلعون ليصبحوا جزءاً من القرن الواحد والعشرين لكن كثيرين منهم ينفرون مما يجعل عصرنا واعداً كثير منهم يرون انقساماً يصعب تجسيره بين أثرياء الغرب وفقراء العالم بأسره. وهذا الانقسام يوفر أرضاً خصبة للنزاع والعداوة.
علينا إرسال رسالة واضحة بأفعالنا عن رفضنا لهذا الانقسام وقبل كل شيء، يتوجب التأكد من فهم كافة شعوبنا لقيمنا المشتركة وللأمل والفرص التي ستجلبها الديمقراطية والحرية واحترام التنوع والتعاون الكوني.. فهذه هي لبنات بناء للتنمية والسلام.
التحدي الأساسي للتنمية البشرية في منطقتنا هو النزاع القائم بين العرب والإسرائيليين دعوني أقولها بصراحة.. لن نرَ قط شرق أوسط مستقراً ومزدهراً فعلاً- والأمن الاقتصادي والسياسي الذي يوفره هذا لجيراننا حتى يتم إيجاد حل للوضع الفلسطيني الإسرائيلي والتحدي يتمثل في إنهاء النزاع الآن.
مضى أكثر من 35 عاماً منذ أن تركت خطوط وقف إطلاق النار في حرب عام 1967 اسرائيل تحتل الضفة الغربية وسلبت آلاف الفلسطينيين الأبرياء حريتهم. ومنذ ذلك الحين، كتبت عقود من المفاوضات سجلهم المؤسف في كتب التاريخ. رأينا خطوات تتجه للأمام وتحققت إنجازات جوهرية لكننا وعلى الرغم منها لم نحقق السلام وصعدت خطورة الوضع من إحباط الشعب الذي أنهكته الحرب والاحتلال والحرمان الاقتصادي.
هذا الجرح القبيح يعيق التقدم في الشرق الأوسط ويلهب التطرف في كل أرجاء العالم آن الأوان لإحلال سلام حقيقي سلام يجد صداه لدى الفلسطينيين والإسرائيليين أعتقد أن كل الشعوب الملتزمة ترغب برؤية زخم جديد.
لدينا رؤية قوية للسلام عبّرنا عنها في مؤتمر القمة العربي في بيروت ولدينا لجنة مدريد الرباعية- أمريكا وأوروبا وروسيا والأمم المتحدة تعمل بصورة وثيقة مع الأطراف الإقليمية. تحتاج الشعوب الآن أكثر من أي وقت مضى أن تلمس النتائج: أمن حقيقي لإسرائيل واستقلال مضمون وقابل للحياة للفلسطينيين ومستقبل يحفل بالأمل للجميع يتطلب تحقيق هذا تركيزاً حاداً على الأهداف النهائية للسلام ووضع إطار زمني واضح ومقبول لتنفيذ هذه الأهداف.
سينتهي المجتمع الدولي قريباً من وضع خطة عمل. والتي ستضم الإلتزامات والحدود الزمنية وآليات الرقابة للتأكد من تطبيق الإلتزامات بأسلوب محدد زمنياً. هذه هي الطريقة الوحيدة التي تشمل خطة يدفعها الأداء وحل لدولتين خلال ثلاث سنوات يمكنها تحقيق التوافق.
لكن الأمر أيضاً يقع على عاتق المجتمع الدولي للتأكد من أن الخطة يتم تطبيقها بنية حسنة يجب أن لا نسمح للعملية بأن تصبح أسيرة لنزوات أولئك الذين يختارون إعاقة السلام.
اليوم نحن بحاجة ماسة لأوروبا لتتسلم دور القيادة في تحالف سلام تحالف بقيادة أخلاقية وسياسية قادرة على التوسط لفرض صفقة شاملة وعادلة ودائمة. هذا وحده يمكنه إقناع مواطنين منهكين من الجانبين للثقة بسلوك الطريق المؤدية للسلام.
أصدقائي
إن سياسة الأردن الخارجية إزاء هذا الأمر وأمور أخرى تستند على مبدأ واضح: حل النزاعات السلمي هو السبيل الأفضل. يظهر التاريخ أن العمل أكثر فعالية والسلام أكثر ديمومة عندما نعمل في إطار شراكة عالمية.. وعندما نتعاون ضمن الشرعية الدولية للأمم المتحدة التي نتشارك جميعاً في عضويتها.
إن مستقبلنا كما كان ماضينا يجعل من أوروبا والشرق الأوسط شركاء في السلام والتقدم لأوروبا الآن دور مركزي تؤديه فتاريخكم في اختراق نزاعات القرون يوفر النموذج لأولئك الواقعين في شرك دوامة العنف في يومنا الراهن لديكم الخبرة والبنية التحتية اللازمة لتجسير الفروق، من خلال الحوار والتفاعل.
أعرف أن السلام ممكن. لكن لا يمكن تحقيقه ما لم نقم بعمل معاً علينا جعل الوعد حقيقة ليس لأطفال الغد فحسب لكن لأطفالنا نحن أيضاً.
أشكركم شكراً جزيلاً..