خطاب جلالة الملك عبدالله الثاني خلال انعقاد أعمال مؤتمر القمة العربية التاسعة عشرة
بسم الله الرحمن الرحيم
خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز،
أصحاب الجلالة والسيادة والسمو،
ملوك ورؤساء وأمراء الدول العربية،
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد،
أوّد ابتداءً أن أتوجّه بعميق الشكر والتقدير إلى خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبد العزيز، وإلى شعب المملكة العربية السعودية وحكومتها لاستضافتهم لأعمال القمّة العربية التاسعة عشر ونثمّن الجهود الكبيرة التي يبذلها خادم الحرمين الشريفين لتعزيز التضامن العربي وتوحيد كلمة الأمّة العربيّة والإسلامية، كما يسرّني أن أتقدم بالشكّر لفخامة الرئيس السوداني المشير عمر البشير على رئاسته للقمّة العربيّة الثامنة عشر، ونجدد الشكر لجامعتنا العربية وأمينها العام السيّد عمرو موسى على الجهود المبذولة من أجل تيسير انعقاد هذه القمة وإنجاحها بإذن الله تعالى.
يأتي انعقاد هذه القمة وأمتنا العربية تمر في أخطر مراحل تاريخها المعاصر، فالتحديات والأخطار التي تواجهها وتهدد أمنها وهويتها ومستقبلها ربما تكون أكبر وأخطر من أي تحديات واجهتها في العصر الحديث، فالقضية الفلسطينية وهي قضية العرب المحورية الأولى والسبب الرئيس للصراع في هذه المنطقة ما زالت تراوح مكانها، والشعب الفلسطيني الشقيق ما زال يرزح تحت الاحتلال. والشعب العراقي الشقيق يتعرض أيضا لأبشع صور العنف والقتل والفتنة بين أبناء الشعب الواحد.
إننا اليوم أمام فرصة قد لا يتوفر لنا مثيل لها لاستعادة الحقوق العربية وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وفقا لقرارات الشرعية الدولية ومبادرة السلام العربية التي أطلقها خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز في عام 2002، والتي مازالت تشكل قاعدة مقبولة من الجميع للوصول إلى حل عادل وشامل للصراع العربي الإسرائيلي على جميع المسارات. وهذا يتطلب الالتزام الكامل بدعم وحدة الشعب الفلسطيني وقيادته المسؤولة التي يجب أن تسعى بكل ما تستطيع من أجل ضمان قيام الدولة الفلسطينية المستقلة وعلى أساس المبادرة العربية. وأمّا العمل الذي لا يستند لقرارات الشرعية الدولية التي يدعمها المجتمع الدولي، فهو عمل يقود بالضرورة إلى نتائج وخيمة تهدد بضياع الفرصة الأخيرة لإيجاد تسوية عادلة وشاملة للصراع العربي - الإسرائيلي.
إن تحقيق السلام بين الدول العربية وإسرائيل لا يمكن الوصول إليه، إلا إذا تعاملت إسرائيل مع المبادرة العربية التي تمثّل المشروع العربي الجماعي للسلام بإيجابية وجديّة واحترام والتزام. وهذا هو التحدي الحقيقي للزعماء والقادة في المنطقة والعالم، وبشكل خاص الولايات المتحدة: الدولة الراعية لعملية السلام، والتي ندعوها للإيفاء بما التزم به الرئيس جورج بوش إزاء إقامة دولة فلسطينية مستقلة قابلة للحياة ومتواصلة جغرافيا، وتعيش إلى جانب إسرائيل، وفي هذا الصدد نقدّر الدور الذي قامت به الإدارة الأميركيّة خلال الأسابيع الأخيرة بهدف تحريك العملية السلمية للوصول إلى إقامة الدولة الفلسطينية على التراب الفلسطيني.
إن العالم العربي قد أبدى نواياه ورغبته الواضحة لسلام عادل وشامل من خلال المبادرة العربية. وعليه فإننا نناشد الدول الإسلامية الشقيقة تأكيد وتفعيل دعمها لهذه المبادرة ولكافّة الجهود المبذولة لتحريك العملية السلمية بهدف إقامة الدولة الفلسطينية.
أصحاب الجلالة والسيادة والسمو،
لقد تعاطى الأردن مع قضايا أمته وواقعها من وحي دوره وواجبه التاريخي والقومي في مساندة الأشقاء ومناصرة الإخوة، وما طلبنا إلا رفعة أمتنا واستقرارها وازدهارها، وحرصنا كل الحرص على ترسيخ الاحترام لسيادة كل دولة من دولنا الشقيقة ورفض التدخّل في شؤونها أياً كان مصدره، وقد كانت القضيّة الفلسطينية على مدى تاريخها قضيتنا القومية الأولى. وتجسيداً لهذه المبادئ التي نؤمن بها، فقد خاطبنا العالم مؤخراً في الكونغرس الأميركي، وركّزنا في خطابنا على ضرورة إيجاد حلّ عادل ودائم للقضيّة الفلسطينية التي ما زالت تشكّل قضيّة العرب الأولى وجوهر الصراع في المنطقة، وتوجهنا أيضاً بنداء صريح مضمونه: "أنقذوا الشرق الأوسط... بل والعالم قبل فوات الأوان"، وهذا الإنقاذ يتمّ برفع الظلم عن الفلسطينيين وتحقيق العدالة لهذا الشعب الشقيق، لينعم بحريته ودولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف. ولتنعم إسرائيل بالأمن الذي يشكل هاجسها الرئيسي في علاقاتها مع محيطها العربي.
لقد أثبتت الأحداث الأخيرة في هذه المنطقة فشل سياسات الحلول الأحادية أو المفروضة على الشعب الفلسطيني، مثلما أثبتت فشل الخيارات العسكرية التي تهدف إلى فرض سياسة الأمر الواقع في مواجهة مقاومة الاحتلال ومحاربة ظاهرة اليأس والتطرف، والتي ولدت نتيجة غياب خـيار السلام والشعور بالقهر والظلم لدى شعوب المنطقة. ولذلك، فإن على إسرائيل الاختيار بين: العيش في دوامة حرب دائمة وكراهية متزايدة، وبين القبول بخيار السلام والتعايش الذي آن الأوان للعودة إليه وإعادة الثقة إلى شعوب المنطقة بإمكانية تحقيقه.
أصحاب الجلالة والسيادة والسمو،
إن المأساة التي يمر بها العراق الشقيق تستدعي منا موقفا واحداً وموحداً لدعم المصالحة الوطنية وسيادة العراق الكاملة على ترابه وأمنه واستقراره من خلال التنسيق العربي مع الأشقاء في العراق والمجتمع الدولي حتى تنتصر فيه إرادة الحياة على شبح الموت والخراب. وهذا لا يتأتّى إلا بإشراك جميع مكونات الشعب العراقي في العملية السياسية القائمة، ووضع حد لدوامة العنف ومد يد العون لكل فئات الشعب العراقي ومنع انتشار بذور الفتنة الطائفية وعدم السماح لأي جهة خارجية بالتدخل في شؤونه. وهذا يستدعي أيضا وقفة عربية صريحة مع القيادات العراقية لتتحمل مسؤولياتها الوطنية والتاريخية نحو العراق والعراقيين، ونحو أمتنا العربية والإسلامية.
أما لبنان، هذا البلد العربي العزيز، والذي يواجه مخاطر تهدد أمنه واستقراره، فإن الأردن يؤكد من جديد على ضرورة التزام العرب والمجتمع الدولي بتقديم الدعم والمساعدة للحكومة اللبنانية لتتجاوز الآثار التي خلّفها العدوان الإسرائيلي على هذا البلد الشقيق، ومن هنا فقد عمل الأردن وسيعمل على استمرار تقديم الدعم لإعادة إعمار لبنان وتمكين الشعب اللبناني من العيش بسلام وأمن واستقرار، وكذلك فإن الأردن يدعو إلى تكثيف الجهود العربيّة والدولية لدعم حق لبنان في استعادة مزارع شبـعا وتحقيق الأمن والاستقرار في مناخ من الديمقراطية وتعزيز سيادة الدولة اللبنانية واستقلال قرارها السياسي، حتى يعود لبنان متمتعاً بدوره الفاعل والرائد والمتميز في المنطقة. كما نناشد قادة وزعماء لبنان أن يتحملوا مسؤولياتهم لإنقاذ وطنهم وتحقيق السلام والحرية والآمان لجميع اللبنانيين بعيدا عن أي تدخل خارجي.
وكذلك هو الحال بالنسبة للسودان والصومال الشقيقين، فالأردن يؤكد حرصه على تحقيق السلام والاستقرار وإيجاد حل عادل لمشكلة دارفور يجنب السودان الشقيق أي تدخل خارجي، كما يدعم ويساند الجهود المبذولة لتعزيز الأمن والاستقرار وترسيخ السلام في الصومال.
أصحاب الجلالة والسيادة والسمو،
إننا اليوم أمام خيارين لا ثالث لهما فإما أن نستنهض قوانا ونوحد مواقفنا وسياساتنا لبناء ثقل عربي - إقليمي نواجه به التحديات والأخطار التي تحيط بنا والتي تهدد أمننا ومستقبل أوطاننا، وإما أن نبقى على ما نحن عليه من فرقة وخلافات تضعف موقفنا أمام العالم وتغري الآخرين بالهيمـنة على منطقتنا بالتدخل في شؤوننا وفرض أجنداتهم علينا، ولذلك فقد آن الأوان لبلورة موقف عربي موحد يحشد طاقاتنا وقدراتنا ومواردنا لخدمة مصالحنا المشتركة ويتصدى لهذه الأخطار والتحديات.
إن تحدي الأمن والاستقرار في دولنا يتطلب إدامة التنسيق والتشاور الأمني والاستراتيجي بينها، بهدف التصدي لأعمال الإرهاب التي تمارسها فئات ضلّت وحادت من أبناء مجتمعاتنا... فئات تظللت بفتاوى غريبة عن ديننا الحنيف، فأصبحت لا تؤمن إلا بالتدمير والقتل والانتحار وتكفير الآخرين ورفضهم، ولأن خطر هذا الفكر وهذه الفئات يطال كافّة أوطاننا ويهدد جميع شعوبنا فإنه لا بدّ من مقاومة هذا الضلال ومحاصرة هذه الفتنة. والمقاومة تكون بالعمل على بث الأفكار المستنيرة والحقيقية المستمدة من ديننا الحنيف وتقاليدنا العربية الأصيلة، والتي ستسقِط وتعرّي الذرائع التي يسوقها الضلاليّون، والتي يعتمدون عليها كمبررات في عملياتهم الإرهابية. ولا يخفى على أحد أن التعاون في هذا المجال سيؤدي حتما لإحقاق الحق ونصر الخير على الشر، ووقف الأذى والفساد وإحباط ما استطعنا من الأعمال الإرهابية.
إن رسالة عمان التي أطلقها الأردن والتي مثلت إجماع علماء المذاهب الإسلامية حول: تحديد من هو المسلم، ومن يحق له شرعا أن يتكلم باسم الإسلام، وجواز التكفير من عدمه، قد شكلت أحد أهم الردود على دعاة الفتنة والفرقة والطائفية. وذلك من خلال إبراز الصورة الحقيقية والمشرقة للإسلام الذي يدعو للاعتدال والتسامح والسلام، والتعايش والانفتاح والحوار، والانخراط والمشاركة في رقي وتقدم المجتمع الإنساني. وهذه الرسالة مثّلت أداة أساسية لمواجهة ومعارضة التعاليم الزائفة للمتطرفين، وخطوة نحو إعطاء الإسلام المعتدل الصوت والحضور البارز اللذين يستحقهما على صعيد العالم.
أصحاب الجلالة والسيادة والسمو،
إن الجامعة العربية تمثل الإطار الأهم لعملنا العربي المشترك، وهي أقدم منظمة إقليمية أنشأت، كما أنها أنجزت وثائق واتفاقيّات مهمة بشّرت بأرقى أشكال التعاون بين دولنا وشعوبنا الشقيقة، وشملت تلك الاتفاقيات مجالات محورية في الشؤون السياسة، مثل تلك التي عالجتها "اتفاقية الدفاع العربي المشترك"، وفي الاقتصاد أيضاً عبر اتفاقيتي "الوحدة الاقتصادية العربية لعام 1955"، و"السوق العربية المشتركة"، اللتان تعدّان أقدم الاتفاقات الاقتصادية لدى التجمعات الإقليمية القائمة. وفي هذا المحور الحيوي، فإننا نؤيد مقترح دولة الكويت الشقيقة والذي طالبت خلاله بعقد قمّة عربيّة اقتصادية متخصّصة. وقد حرصنا في الأردن على زيادة وتعزيز التجارة العربية البينية والنوعيّة، ونحن على يقين بأن الوقت قد حان للحديث عن أطر أنضج وأرقى للتعاون الاقتصادي العربي، وتمثّل هذه القمّة العربية المقترحة؛ الاقتصادية المتخصصة أفضل أرضية لمناقشة هذه الأطر ومن ثم تفعيلها. وبالإضافة إلى الاتفاقيات المشار إليها يوجد اتفاقيات مشابهة في مجالات الثقافة والعلوم والإعلام والسياحة والنقل والاتصالات والأمن تشكّل نواة للعمل العربي المشترك الحقيقي والفاعل والقابل للتطوير والبناء عليه إن شاء الله وإن سعينا من بعد.
وبالرغم من هذه الاتفاقيّات والأطر النّاظمة إلا أن شعوبنا تتساءل باستمرار: أين التطبيق العملي والنتائج الملموسة لهذه الاتفاقيات وهذه الأطر؟! والجواب معروف، ويعزّ علينا أن نجلد ذاتنا، ولكن لا يجوز لنا ونحن في موقع المسؤولية والقيادة أن نبقى أسرى للأسف والأسى. فالطريق إلى المستقبل المنشود لرفعة أمتنا هو أن نعيد صياغة حياتنا واصطفافاتنا بما يكفل وحدة الرأي والموقف، وعلى أسس ضامنة لأمن وسلامة كل دولة، وذلك ليس بجديد ولكن يعوزه التطبيق، فقد تطرقت إليه الاتفاقات المذكورة وعالجته، ولكن ضرورة التطبيق قد باتت اليوم أكثر إلحاحاً خاصّة وأن هويتنا وتقاليدنا وقيمنا، أصبحت تواجه وبازدياد أشكالا متعددة ومعقّدة من الأخطار. ولذا نأمل أن نخرج من هذه القمّة بخطوات عملية تقود إلى تطوير وتفعيل عملنا العربيّ المشترك، بما يمنح شعوبنا والأجيال المقبلة الأمل في حياة أفضل، يساهمون خلالها ببناء مجتمعاتهم بأرقى الوسائل وعلوم العصر مع المحافظة على تراثهم الذي تتجسد فيه القيم الإنسانية والأخلاقية.
أصحاب الجلالة والسيادة والسمو،
إن العالم من حولنا يتغير ويتقدم للأمام. ونحن كذلك نتطلع للتقدم نحو الأمام. ومن هنا فإن أقطارنا أصبحت بأمس الحاجة إلى الاستخدام السلمي للطاقة النووية، حتى تتمكن من النهوض وبناء مجتمعاتنا وتحديث حقول العلوم والصناعة والزراعة والصحة فيها. ولهذه الغايات فإننا ندعو إلى إنشاء "مركز عربي سلمي لاستخدام الطّاقة النووية"، مع مواصلة المطالبة بانضمام إسرائيل لاتفاقية منع انتشار الأسلحة النووية وخضوع مفاعلاتها النووية للرقابة الدولية، أسوة بغالبية دول العالم، ما يحقق أمن جميع دول المنطقة ويكفل خلوها من أسلحة الدمار الشامل، التي تشكل تهديداً لمستقبل البشرية جمعاء.
وفي الختام.. فإننا نعيد التأكيد على ضرورة أن تخرج هذه القمّة بخطوات عملية تهدف لوضع اللبنة الأساسية لعمل عربي مؤسسي وفاعل، يعيد الثقة بالنظام العربي، ويكرس مصداقيته، ويعزز التضامن باعتباره قاعدة للتعاون والتكامل والتوافق. كما نجدد الشكر للمملكة العربية السعودية ولخادم الحرمين الشريفين على استضافة ورعاية هذه القمة، وعلى تواصل جهوده ومساعيه الرّامية لتوحيد الصف العربي وتمتين الموقف الإسلامي من خلال الدور الرئيسي الذي تطّلع به المملكة في مجلس التعاون الخليجي ومنظمة المؤتمر الإسلامي.
وفقنا الله جميعا لما فيه خير أمتنا وشعوبنا
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،،