خطاب جلالة الملك عبدالله الثاني في حفل الغداء الذي يلي الإفطار الوطني للصلاة
بسم الله الرحمن الرحيم
أشكركم جميعا على ترحيبكم الكريم. ويشرفني أن أكون معكم اليوم. وأنا ممتن بصورة خاصة للصلوات التي تليت في الإفطار الوطني للصلاة عام 1999، من أجل والدي الملك الحسين. فحتّى في تلك الأيام الأخيرة من حياته، كان ما زال يعمل من أجل السلام؛ السلام لمنطقتنا، والسلام لعالمنا. وهذا المثل الذي ضربه علّمنا أن الخدمة العامة وواجبنا تجاه الله تعالى لا ينفصلان. فأولئك الذين يقومون بالخدمة، عليهم الامتثال لما ورد في سفر المزامير في الكتاب المقدّس: "ابتغ السلام واتبعه".
وفي هذا المنعطف التاريخي، فإن خدمتنا لله، ولبلداننا ولشعوبنا، تتطلب منا أن نتصدّى للتطرّف بأشكاله التي لا تُعدّ. وحتى نتغلّب على هذا العدو المشترك، علينا أن نستشرف آفاق القيم التي توحّدنا، بدل أن نعمل على المبالغة في المسائل التي يساء فهمها والتي تُحدْث الفُرْقة بيننا.
إن الإسلام، مثله مثل المسيحية واليهودية، ديانة توحيد: فالمسلمون يؤمنون بأن الله تعالى واحد أحد؛ وهذا الإيمان هو أساس كل شيء في الإسلام. يقول الباري جلّ شأنه في القرآن الكريم: {وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله، وهو الحكيم العليم}.
والإسلام، مثله مثل اليهودية والمسيحية، يؤمن بالكتب الإبراهيمية المقدّسة: فقد جاء في القرآن الكريم أن الله تعالى: {... أنزل التوراة والإنجيل}.
والإسلام، مثله مثل اليهودية والمسيحية، يقوم على ثلاثة مبادئ رئيسية: مبدأ أن "الربّ إلهنا ربّ واحد" (سفر تثنية الاشتراع)، ووصيتين ذهبيتين. يقول السيد المسيح، عليه السلام، وكلماته تردد صدى ما ورد في التوراة: "إن أوَّل الوصايا كلّها اسمع يا إسرائيل إن الربَّ إلهنا ربّ واحد، فأحبب الرب إلهك بكل قلبك وكل نفسك وكل ذهنك وكل قدرتك. هذه هي الوصية الأولى. والثانية التي تشبهها أحبب قريبك كنفسك، ولا وصية أخرى أعظم من هاتين".
ومثل ذلك، يقول النبي محمد، صلوات الله وسلامه عليه: "والذي نفس محمد بيده لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحبّ لنفسه".
إن هاتين الوصيتين - اللتين يتعلق بهما "الناموس كلّه والأنبياء" كما ورد في إنجيل القديس متى - يجب أن تجمع ما بيننا، لأن المسيح، عليه السلام، قال: "مَن لم يكن علينا فهو معنا".
ويشبه هذا ما ورد في القرآن الكريم: {إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون}.
إن دياناتنا، اليهودية والمسيحية والإسلام، يجب أن تجمع ما بيننا بطرق أخرى. فجميعها تتطلب منا التواضع والقوّة في آن معاً. التواضع في أن ندرك أن هناك قوّة أعلى منا: الواحد الأحد الذي خلقنا ورزقنا. والقوة التي سنتمكن بواسطتها - بمشيئة الله - من إحقاق إرادة الله: بأن نعيش حياتنا بضمائر حية، وأن نعمل على إحداث فرق إيجابي، وأن نحب عائلاتنا ونكرمها.
إن المؤمنين يمتحنون في كل جيل. والتحدّي الأكبر في جيلنا مصدره المتطرفون الذين يؤمنون بالعنف والذين يسعون إلى تنفيذ سياسة فرّق تَسُد. إن التطرف حركة سياسية تعمل تحت غطاء ديني. وأتباعها لا يسرّهم أكثر من وضعنا في مواجهة بعضنا بعضاً، وأن نتنكّر لكل ما هو مُشترك بيننا. ومن هنا علينا أن نلتفت لكلمات العهد الجديد (في رسالة القديس بولس إلى أهل رومية): "لا تنغَلِب للشر، بل اغلِب الشرَّ بالخير".
إن المسلمين، مثلهم مثل المسيحيين واليهود، لا يقرّون الاعتداء على الأبرياء - في أي أرض كانوا وإلى أي دين انتموا. وقد علّمنا النبي محمد، صلوات الله وسلامه عليه، إن لا ضرر ولا ضرار في الدين، وقال: "الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا مَنْ في الأرض يرحمكم مَنْ في السماء". وقال عيسى، عليه السلام، "طوبى للرحماء فإنهم يُرْحمَون".
وبمشيئة الله، عمل والدي في عهده، وآمل أنا في عهدي، أن أعمل على مكافحة ظاهرة التطرّف من خلال الترويج للفهم الصحيح لديننا. وقبل أكثر من عام، أطلق الأردن مبادرة دينية لإعادة تأكيد مفهوم الإسلام المعتدل، ولتعرية وعزل التطرف، ولتأكيد التعاليم المشتركة بين اليهودية، والمسيحية، والإسلام.
والمبادئ التي تضمّنها البيان الذي صدر في عمّان عن حقيقة الإسلام تبنتها منظمة المؤتمر الإسلامي في مكة في كانون الأول (ديسمبر) الماضي باعتبارها جزءًا من خطة المنظمة العشرية لمستقبل العالم الإسلامي. وهذا يضرب أعماق جذور التطرّف لأنه يجرّد التطرّف من شرعيته الإسلامية، ويعزّز وسطية الإسلام والتي تنتمي إليها الغالبية العظمى من المسلمين. كما أن هذه المبادئ تشكّل هجمةً مباشرة على التشويهات التي يروجها المتطرفون حول الإسلام، وذلك بتعرّية زيف أيديولوجياتهم في ضوء الحقيقة. يقول تعالى في كتابه العزيز: "وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً".
إن ما حدث في الحادي عشر من أيلول (سبتمبر)؛ وتفجيرات القطارات في إسبانيا؛ وتفجيرات محطات القطارات والحافلة في لندن - كلها اعتداءات أدّت بالبعض إلى أن يعتقد أن هناك "صراع حضارات". وليس هناك ما يبهج المتطرفين أكثر من هذا، فهذا هو ما يعتبر حقيقة في نظرهم. وزيف هذا القول يتضح للجميع من خلال التفجيرات التي قام بها المتطرفون في العالم الإسلامي... في الأردن، ومصر، والمغرب، والمملكة العربية السعودية، والكثير غيرها. ففي كل يوم تقريباً، يقتل المسلمون على يد المتطرفين في العراق. والذين يستهدفهم المتطرفون ليسوا مسيحيين، ولا يهوداً، ولا أمريكيين أو أوروبيين، بل مسلمين أبرياء من سكان البلاد الأصليين.
ولن أنسى أبداً زيارتي لمستشفياتنا بعد أن فجّر المتطرفون حفل عرس للمسلمين في عمّان في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي. فقد غمرتني وزوجتي رانيا، مشاعر الحزن تعاطفاً مع الأباء والأمهات والأبناء والبنات الذين شهدوا أسرهم تُقتل عمداً وبقسوة. إن مثل هذه الأفعال الطائشة النزقة تبيّن أن الإرهاب الذي يقوم به المتطرفون لا يعتبر إشارة على وجود صراع بين الحضارات. وهو ليس إلا هجوماً على الحضارة. وكما قال الدكتور مارتن لوثر كنج: "إن الحضارة والعنف مفهومان متناقضان أخلاقياً".
إن العنف الذي أطلق عقاله الجماعات الارهابية والقلّة الذين يتبعونهما يصدر عن الكراهية. فهم لا يدعون إلى الإسلام الذي جاء به القرآن الكريم والنبي محمد صلى الله عليه وسلم. وما يروجون له هي أيديولوجية سياسية بغيضة تنتهك مبادئ الشريعة الإسلامية وتعاليمها. فمهما كان حجم المرارة التي تعتمل في النفس، ومهما كانت الشرور التي يواجهها المرء، فإن القرآن يأمرنا بأن لا ننساق وراء الكراهية: "ولا يجرمنّكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى".
إن المتطرفين، من اتباع أي دين كانوا، الذين ينشرون مفاهيم عدم التسامح والعنف، يشوّهون النصوص السماوية للترويج لقضيتهم. لقد شعرنا بالهلع وبالغ الإستياء اتجاه الإعتداءات التي جرت مؤخرا على الكنائس المسيحية في العراق، والتي تعد خروجا صارخا على تقاليد امتدت على مدى 1400 عام من الصداقة الإسلامية - المسيحية والقبول المتبادل بين عرب المشرق. وبالقدر ذاته، وفي الوقت الذي نحترم فيه حرية التعبير ونضعها في درجة عالية من التقدير، فإننا ندين بشدة التدنيس والإيذاء غير المبررين للمشاعر الإسلامية، كتلك التي تمثلت مؤخرا في الرسوم الكاريكاتورية والتي تظهر جدي الأعظم النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) بصورة مسيئة ومهينة.
وإذا ما سمحنا لمثل هذه الحالة من عدم التسامح وسوء النية أن تجعلنا نتمحور ضد بعضنا بعضاً، آلا نكون بذلك قد ارتكبنا خيانة بحق ذكرى جميع الذين قتلوا على أيديهم؟ ونكون قد قمنا بما هو أسوأ من ذلك، إذ نكون قد حدنا عن الحقيقة - الحقيقة التي جرى التعبير عنها على مدى موروثنا اليهودي - المسيحي - الإسلامي؛ فقد جاء في إنجيل لوقا: "ما من شجرة جيدة تثمر ثمراً فاسداً ولا شجرة فاسدة تثمر ثمراً جيداً".
ومعاً، علينا واجب تجاه هذا الجيل والأجيال الكثيرة القادمة، وهو أن نكون شهود على الدور الإيجابي الذي يقوم به الإيمان في الحياة العامة. ويمكننا، وهذا الإيمان يغمر نفوسنا بالتواضع ويمنحنا القوّة والعزم، وبمشيئة الله تعالى وعونه، أن نعمل على إيجاد مستقبل أكثر عدلاً وسلاماً. وهذا يبدأ بإن نقف معاً، متمسكين بالمبادئ التي خرقها أولئك الذين يقفون معارضين لنا، وكما ورد في الإنجيل: "كن مثالاً للمؤمنين في الكلام والتصرّف والمحبّة والإيمان والعفاف" .
وأشكركم جزيل الشكر.