خطاب جلالة الملك عبدالله الثاني في حفل تخريج كلية ديرفيلد لعام 2006
بسم الله الرحمن الرحيم
مدير الكلية،
أيها الأصدقاء،
يسعدني غاية السعادة أن أعود إلى ديرفيلد، وأكون بينكم جميعاً. كما يشرفني أيها الطلاب أن اساهم في الاحتفال بتخريجكم. ففي الحياة، تعتبر هذه إحدى اللحظات النادرة - ليس باعتبارها نقطة تحوّل، بل بدرجة أكبر مرحلة توقّف وتأمّل؛ حيث يكون بمقدور المرء أن يتوقف ويتأمل ما تحقّق من نجاح حقيقي، وأن ينظر في المسار الآتي.
اسمحوا لي أولاً، أن أهنئ الذين كانوا يتطلعون فعلاً إلى هذا اليوم... منذ أول مرة زاروا فيها ديرفيلد - ومن خلال جميع الدروس المستفادة، أثناء الفصول الدراسية وأثناء العطلات، وعبر الأوراق البحثية والتقارير وطلبات الالتحاق بالجامعات، مروراً بحالات القلق والتوتر وحالات الفرح والسعادة، وكتابة الرسائل الإلكترونية في ساعة متأخرة من الليل، والحب والدعم اللذين قدموهما ... وعبر اتصالاتهم الهاتفية العديدة: وأعني بهؤلاء آباء وأمهات الطلاب في ديرفيلد؛ لذلك فيا أيها الآباء والأمهات، أرجو أن تتقبلوا احترامنا وشكرنا.
أيها الطلاب والطالبات خريجي دفعة عام 2006: إن هذا اليوم هو يومكم. وأنا هنا لأرحّب بانضمامكم إلى مجتمع رائع متميز، مجتمع خريجي ديرفيلد. انكم ستجدوننا في جميع أرجاء العالم. وكل واحد مّنا يعرف في قرارة نفسه ما يعنيه طلب العلا - وماذا يعني أن يكون الأنسان جزءًا من هذه التجربة وهذه الكلية.
إنكم تتعلمون عندما تأتون إلى هنا أن أيّ مؤسسة عظيمة ليست مجرد مكان. فالناس هم الذين يعطون هذه المؤسسة استمراريتها وشخصيتها، وروحها الفريدة في المجتمع وتميزه. وحالكم كحالنا جميعاً في أن هذه التجربة لا تنتهي اليوم لإنها ببساطة بداية مرحلة جديدة. فروح ديرفيلد تستمر مدى العمر. وستقومون، وأنتم تحملون هذه الروح، بتشكيل المستقبل بأكثر مما تعتقدون.
إن دفعتكم تأتي في عالم يعجّ بالتغيّر- في نواحي الاقتصاد والسياسة، وفي المعرفة والقدرات الإنسانية. وهذه حقيقة تعرفها الدفعة التي تخرجت منها حقّ المعرفة. ففي عام 1980، عندما تخرجنا، كانت أخبار الحرب الباردة تغطي العناوين الرئيسية في الصحف؛ أما الآن فهي فصل في كتب التاريخ. والتقنيات التي كانت تعتبر أرقى ما وصلت إليه التكنولوحيا قبل فترة وجيزة، غدت اليوم في المتاحف. وكما تعلمون، فإن أوّل جهاز كمبيوتر شخصي من صنع آي بي إم لم ينزل إلى الأسواق إلا في عام 1981. وكان حجم الذاكرة فيه 256 كيلوبايت. وجميع التقنيات التي نعتبرها أمراً مفروغاً منه اليوم - كالهواتف الخلوية، و أجهزة الكمبيوتر المحمولة، والاتصالات العالمية - كانت بالكاد معروفة لدى الناس. وأنا متأكد أنني وإياكم سنتعامل، خلال سنوات قليلة، مع قدرات جديدة تماماً وسنواجه تحدّيات جديدة.
السؤال إذا هو كيف نهيئ أنفسنا لمستقبل من هذا النوع؟ في الأردن، وفي أمريكا، وفي جميع البلدان الأخرى، تبدأ التهيئة بتأمين الأساسيات التي قوامها المعرفة والمهارات. وهناك مقولة في المنطقة التي انتسب إليها مفادها أن المعرفة هي أفضل ثروة: إذ يسهُلُ حملها، ولا يستطيع أحد أن ينتزعها منكم، وهي ذات قيمة حيثما ذهبتم. واسمحوا لي أن أضيف إلى هذا أنه بخلاف ما كنتم تشعرون به وأنتم تدرسون استعداداً للامتحانات، فإن دماغكم لا يصل إلى حال يكون فيه قد استوعب ما يزيد على طاقته. إذ كلما ازدادت معرفتكم، كلما تحسّن فهمكم لما هو آت. وهذا ينطبق في مجال الأعمال والتكنولوجيا، وفي البيئة، وفي الشؤون الدولية وحضارات العالم. والرسالة من كل هذا هي: تابعوا التعلم ولا تتوقفوا.
ولكن في عالم ديناميكي متنّوع، فإن النجاح يتطلب المزيد. ولكي تعملوا على إثراء مسيرة حياتكم، عليكم أن تكونوا على استعداد لشق طريقكم متسلحين بالفكر في خضمّ التغيير والنموّ والتحدّي. إن أفضل المعاهد تعمل على تشجيع التفكير الناقد والفضول الذي لا يهدأ. وتؤصل قيماً وأخلاقاً راسخة - قوامها احترام الناس الآخرين ووجهات النظر الأخرى؛ والأمانة؛ والمسؤولية؛ والتعاطف. وفي ديرفيلد، تعلمنا: "امض فيما تنهض به على مستوىً عالٍ" - و "وكن قويا في مرحلة بلوغ الإنجاز النهائي". وهذا التمثّل للشخصية القوية الواثقة، وهذا القلب المفعم بالمشاعر، هما ما تقدّمونه للمستقبل. وعلينا أن نعلم أن هذا الأمر لم يحظ في أي وقت مضى بأهمية أكبر من وقتنا هذا.
ومردّ ذلك أنه بالرغم من جميع ما تغيّر، فإن بعض الأشياء لم تتغيّر بما فيه الكفاية. فما زالت هناك أعداد كبيرة من الناس في أرجاء الكون ترزح تحت نير الفقر، والمعاناة، والنزاع المستمر. وفي منطقتي، تحطمت حياة العديد من الناس، على مدى سنين عديدة، نتيجة للعنف وفقدان الأمل. ولا استطيع أن أقف هنا اليوم دون أن أفكر في أحوال الطلاب في العراق، وفلسطين، وإسرائيل، الذين انحرفت تطلعات مستقبلهم عن مسارها نتيجة سنوات من النزاع.
أصدقائي، لا يستطيع فرد، ولا تستطيع أمة، تجاهل آمال الآخرين في أرجاء العالم. فنحن مرتبطون معاً بروابط لا تنفصم وبأحلام مشتركة. وزملاؤكم الطلاب في كل مكان يرغبون فيما ترغبون أنتم فيه: العدل والأمان والفرصة لبناء حياة ملؤها الازدهار والسلام. وما دامت هذه الآمال غير محققة، فإن عالمنا بأجمعه يدفع ثمناً رهيباً.
ولكن، أيها الأصدقاء، ما زال هناك خيارات لدينا. فنحن بإمكاننا أن نشيح بأبصارنا عن نمط التفكير القائم على " نحن وهم" - وما يجلبه هذا النمط من العوائق والركود والجمود. ويمكننا أن نعمل معاً لبناء السلام الذي يحتاجه الناس كي يعيشوا بأمن وثقة. ويمكننا أيضا أن نوسّع نطاق الفرص المتاحة والتنمية التي تحقق الفوز للجميع. كما يمكننا فتح حوار جديد بين الأديان والثقافات، بروح من التقبّل والاحترام الأصيلين.
إنَّ مهمة قادة الغد هي أن يجدوا الفرص المتاحة في ثنايا التحدّيات. وبإمكان كل واحد منكم أن يقوم بدور أساسي. فالناس، أكثر من أي وقت مضى، بحاجة لفهم بعضهم بعضاً وما يجمعهم من روابط ومصالح واهتمامات مشتركة، إضافة إلى صفحات تاريخنا، وأحياناً آرائنا المختلفة. وقد قدمت أكاديمية ديرفيلد إسهاماً كبيرا في هذا المجالً، وخاصة فيما يتعلق بالتواصل مع العالم العربي. والآن ستكون هناك فرصة جديدة للعمل معاً، مع قيام كنغز اكاديمي بفتح أبوابها في الأردن. لقد أردنا أن نجلب أنموذج ديرفيلد إلى الشرق الأوسط باعتباره معهداً داخلياً مختلطاً، يتقارب فيه الأساتذة والطلاب، وتعمل الدراسات الأكاديمية فيه على تشجيع أعمال عظيمة. ويتم فيه كذلك إثراء الحياة من خلال الرياضات التنافسية، والفنون الحيّة، والخدمة الحقيقية للمجتمع.
ونحن ممتّنون بعمق لما لاقيناه من دعم وتشجيع من العديد من الناس في أسرة ديرفيلد، وخاصة دفعة خريجي عام 1980 الرائعة. ونتطلع إلى علاقة خاصة بين المعهدين. وفي الواقع، وعندما يبدأ الفصل الأول في كنغز اكاديمي، سيكون لدينا المدير المناسب للترحيب بالطلاب - وهو المربّي المتميز بحق والقائد العظيم، إيريك ويدمار.
إنني أعتقد أن إيريك ليس من النوع الذي يتقاعد - واسمحوا لي أن أعبّر عن عميق الشكر لهذا. سيدي، نحن نتطلع إلى الترحيب بك وبميرا في الأردن. وآمل أن يتمكن كل واحد منكم، من زيارتنا أيضاً.
واسمحوا لي أن أوجه كلمة للمدرسين والعاملين في الكلية. إن خريجي ديرفيلد هم موروث حيّ لأولئك الذين كانوا مصدر إلهام لنا، وآمنوا بقدراتنا، وكانوا معنا ولنا في وقت الحاجة لهم. لقد كنت طالبا في واحدة من أوائل المواد التي درّسها مدرس شاب عظيم اسمه تيدوين ليتمان في ديرفيلد. وقد استمر في تشجيع وتحفيز الطلاب على مدى عقود. ومع أننا فقدناه هذا العام، فإن موروثه باق. واليوم ترتفع أكفّنا بالدعاء له بالرحمة، مشاركين أسرته وأصدقاءه هذا المصاب الجلل.
اسألوا أي واحدٍ من خرّيجي أكاديمية ديرفيلد، وستسمعوا الكثير عن المدرسين الذي عملوا على إحداث فرق في حياتنا. وبالمناسبة، فليس كل المعلمين العظام من درس في غرفة الصف فحسب. فقد تعلمنا دروساً عدة من واقع الحياة من أشخاص أمثال نورم ودوتي اللذين عملا في مستودع الكلية؛ لذلك فأنا أتقدم بجزيل الشكر لكل ما أعطيتمونا.
وهنا في ديرفيلد، وفي كنغز اكاديمي أيضاً، ستستمر روح تكاتف المجتمع والإنجاز. وهذه الروح تستمر بصورة واقعية لدى كل خريج يبقى على تواصل مع الآخرين ويعمل على إحداث فرق في عالمنا.
إن هذه هي الفكرة المتمثلة في التقليد المسمّى جرين كي (المفتاح الأخضر) وتعني يد ممدودة بالصداقة، من طالب إلى طالب، وفرصة لأن يبدأ دورك في أن توجّه الآخرين وترشدهم. والآن ستكونون، أيها الخرّيجون، مفاتيح خضراء في عالم أكبر. وسيختار كل واحد منكم، بطريقته الخاصة، الأبواب التي سيفتحها. وسيختار كل واحد منكم أيضا فيما إذا كان سيعمل على إبقاء هذه الأبواب مفتوحة للآخرين مثلما كانت هي مفتوحة أمامه. احملوا روح ديرفيلد وانطلقوا بها إلى أمام. اعملوا على اختيار أشياء عظيمة. وآمنوا بما لديكم من قوّة لإحداث فرق. فهذا الزمان زمانكم فاغتنموه.
وتهانيّ لكم وبارك الله فيكم جميعاً.