خطاب جلالة الملك عبدالله الثاني في معهد اليابان للشؤون الدولية
بسم الله الرحمن الرحيم
سعادة السفير ساتو،
السادة أعضاء مجلس الإدارة،
السادة العاملون في المعهد،
الضيوف الأفاضل،
يشّرفني أن أتحدث في هذا المعهد الذي يحظى بمكانة رفيعة. فمعهد اليابان للشؤون الدولية يقوم بدور هام في المضي قدما بالتفاهم العالمي. ويسعدني، أن أنضم إليكم في هذا الحوار.
إن هذه هي زيارتي الثامنة إلى هذا البلد العظيم. ويأتي توقيت زيارتي في فترة انتقال هامة لليابان والأردن. ففي العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية، شكّلت اليابان صورتها كقوة اقتصادية عالمية وكداعية لإحلال السلام العالمي. واليوم، يرنو رئيس الورزاء آبي إلى رؤية "اليابان الجميلة" - اليابان المتجذّرة في قيمها التقليدية، القائمة تحت مظلة المجتمع الحرّ ... اليابان التي تتمتع بالمكانة الجديرة بها على المسرح العالمي.
وهذه أهداف وضعناها في الأردن أيضاً نُصْب أعيننا. وفي واقع الأمر، فإن اليابان تساعدنا على الوصول إليها. فإلتزامكم بالتنمية في الأردن أدّى إلى إحداث تحسينات في العديد من المجالات الأساسية المتنوعة في ميادين البُنى التحتية، والقدرات التصديرية، والرعاية الصحية، والتعليم. وقد قامت اليابان بدور ذي أهمية بالغة في مساعدتنا أيضا على تعزيز التدريب المهني - الذي يُعدّ حجر الزاوية فيما يتصل بقدرات القوى العاملة الحديثة. كما قدّمت اليابان لنا مساعدات رئيسية أخرى تمثّلت في إعادة جدولة الدَين، والمنح، ودعم الموازنة الوطنية.
واسمحوا لي أن أقول إن الأردنيين ممتنون بدرجة كبيرة للدعم الياباني الكبير. فقد ساعدت بلادكم الأردن على السير قُدُماً خلال حرب الخليج الأولى ... وذلك عندما قمنا بالتعامل مع الإجراءات التقشفية في عام 1996... وعندما انتقل المغفور له جلالة الملك الحسين إلى رحمة الله ... والآن كذلك والأردن والعالم يواجهان تأثيرات الأزمات التي تمر في منطقتنا. أصدقائي، بالنسبة للأردنيين، فإن ما تقوم به اليابان يُجسّدُ معنى القيادة العالمية. ونحن نقدّر صداقتكم ونحترمها بعمق.
إن دعم اليابان يعد إسهاماً أساسياً بصورة خاصة لجهود الأردن الإصلاحية التي شملت العديد من المجالات - السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية. وهذه هي الإصلاحات التي سوف تساعد على إدامة التنمية، وتعزّز مشاركتنا في الاقتصاد العالمي.
واليوم ينمو اقتصادنا بما يزيد على 5, 6 ٪ في السنة. والمنتجات الأردنية تصل إلى أسواق عديدة أكثر من ذي قبل. وتكبُرُ، يوماً عن يوم، صورة بلدنا كمُنطلقٍ وبوابةٍ للأعمال العالمية والإقليمية. ولدى الأردنيين الآن إمكانية الوصول إلى المعرفة والمهارات والتقنيات التي يحتاجونها للنجاح في العالم.
وهذه الخطوات ساعدت الأردن على السير نحو مستويات دخل أعلى. ويقود الأردن الآن جهداً جماعياً لإحراز إنجازات مستدامة من خلال الإدارة الاقتصادية والإصلاح. وفي سبتمبر الماضي، عَقدَ الأردن القمّة الأولى للبلدان ذات الدخل المتدني- المتوسط. وهدفنا، كمجموعة، هو العمل معاً ومشاركة المجتمع الدولي لترسيخ مكاسبنا الاقتصادية، والسياسية ، والاجتماعية. ونحن نتطلع إلى مساعدة اليابان المستمرة في هذا المسعى.
كما أن الأردن برز كدولة رائدة على الصعيد الإقليمي في مجال الإصلاحات السياسية والاجتماعية. فقد أتممنا في العام الماضي وضع الأجندة الوطنية. وهذه الوثيقة حدّدت أولوياتنا الوطنية المتصلة بالإصلاح في جميع المجالات للسنوات العشر القادمة. ونحن نبني عليها كل يوم. وأشعر بالاعتزاز وأنا أقول لكم أن قانون هيئة مكافحة الفساد قد دخل حيز التنفيذ في أوائل هذا الشهر. وبمقتضاه تشكلت هيئة رسمية مستقلة، أُوكل إليها مكافحة الفساد في القطاع العام.
وفي الأشهر القادمة، يُتوّقع أن ينجز المعنيوّن بالتشريع قوانين تعطي مكانة خاصة للتعددية السياسية، وتعمل على توسيع إمكانية الوصول إلى المعلومات بدرجة أكبر، وعلى إطلاق حرّية وسائل الإعلام على مدى أوسع.
كما أن نظامنا التعليمي يحقق قفزات هائلة. فقد وضعنا موضع التنفيذ برنامجاً تعليمياً يستند إلى التكنولوجيا، غدا أنموذجاً يُحْتذى في المنطقة وما يتجاوزها. وهذا المحتوى الجديد يؤمن للطلاب الأردنيين الأدوات التي يحتاجونها للمشاركة في الاقتصاد العالمي.
إن الأردن، مثل اليابان، توّاق لإشراك الآخرين فيما حققه من نجاح في السير إلى الأمام بالسلام والديمقراطية والاستقرار في منطقتنا. أما الشعور بالمسؤولية نحو الآخرين فيعتبر من التعاليم الأساسية لديننا الحنيف.فالإسلام يكرّم الإنسانية المُشتركة لجميع الناس، ويدين التطرف بصورة واضحة. وهذا هو رأي الغالبية العظمى المعتدلة من المسلمين. وأنا أؤمن بأن ذلك هو المفتاح لمستقبل عالمنا - وأهميته تتبدّى اليوم في الشرق الأوسط أكثر من أيّ مكان آخر.
إن منطقتنا تجابه أزمة عميقة تتمثل في المعاناة الإنسانية الهائلة، وانتشار الأسلحة، والتصعيد المرعب في تواتر الأزمات وكثافتها. وهذه الحال لا تمثل إلا دعوةً للتدخّل من قبل المتطرفين والقوى الإقليمية التوّاقة للسيطرة.
إن المؤشرات الديمغرافية (السكّانية) تجعل من هذه التوجهّات مصدراً متعاظماً للقلق. فأكثر من نصف السكّان في الشرق الأوسط في الثامنة عشرة من العمر أو أصغر. وهم يحتاجون إلى أن توفر لهم الفرص للمشاركة والإسهام في الوعد الذي يحمله هذا القرن، وهم يستحقوّن مثل هذه الفرص. وهم أيضا بحاجة ماسّة إلى بديل للتطرّف والعنف. وعلى مستوى المنطقة، فإن تلبية توقعّات الشباب تطلب نحو خمسين مليون وظيفة جديدة بحلول عام 2010 - وأكثر من 200 مليون وظيفة بحلول العام 2020. وهذا يعني أن علينا العمل معاً لمواجهة هذه التحدّيات.
إن اليابان تقوم فعلاً بدور هام في منطقتنا - كشريك اقتصادي وكأنموذج يُحتذى وداعم للتنمية. وفي الصيف الماضي، بحثت مع رئيس الوزراء كويزومي مفهوم اليابان الإبداعي لبناء السلام في منطقتنا. فهذا المفهوم المعروف بإسم مشروع "ممر السلام والازدهار" يمثل تعاوناً مهما بين اقتصادات وادي نهر الأردن، يشمل الأردن وفلسطين وإسرائيل. وهي مبادرة تستند إلى مبدأ السلام الدائم. وفي هذا النطاق، فإن دور اليابان في منطقتنا ليس اقتصادياً فحسب، ولكنه سياسي أيضاً.
أصدقائي،
إن النزاع الفلسطيني - الإسرائيلي يقع في قلب بؤرة التوتّر في منطقتنا. وهو يشكّل المَظْلمة التي يتخذها المتطرفون والمتعطشون الإقليميون إلى السلطة ذريعةًً لتوسيع نطاق نفوذهم وإدامة النزاع. والإخفاق المستمر في إيجاد حلّ لإزالة هذه المظلمة يهدّد بزيادة حدّة الأزمات الأخرى في منطقتنا.
ويمكننا إنهاء هذا الخطر. والخطوة الأولى لذلك هي تحقيق تسوية عادلة للنزاع بين الفلسطينيين والإسرائيليين ... مما سيشكّل حافزاً لإحلال سلام عربي - إسرائيلي أوسع وأكثر شمولية، يشمل المنطقة بأسرها. وهناك أساس سليم يمكن الانطلاق منه، وهو مبادرة السلام العربية لعام 2002 التي وفرت طريقة يتواصل من خلالها الأطراف وتقدم لهم ما يرغبون فيه وما هم بحاجة إليه: ضمانات أمنية بين جميع الدول العربية وإسرائيل ... وانسحاب إسرائيلي من جميع الأراضي العربية المحتلة منذ عام 1967... ودولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة، وقابلة للحياة. وهذه نافذة يجب أن لا يتم تجاهلها.
والخطوة الثانية هي ضمان السلام الدائم. فحتى يكون السلام مستداما، يجب أن يجمع ما بين الأمن والنمو الاقتصادي الذي يعجّ بالحركة والنشاط؛ والدولة الفلسطينية القابلة للحياة يجب أن تكون قادرة على تحقيق التنمية الاقتصادية المستدامة. وعليها أن تجمع ما بين الناس والحكومات ومنشآت الأعمال في شراكات... كما أن عليها أن تؤمّن مزايا ملموسة.
إن الوقت الحالي هو الوقت المناسب لتفعيل مُقْترح اليابان. ووسائل المضي بهذه المبادرة إلى الأمام كانت جزًا من محادثاتنا عندما التقينا رئيس الوزراء آبي والمسؤولين اليابانيين الآخرين في وقت مبكر من هذا اليوم. وسنكون شركاء بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
كما أننا نشترك في الشعور بالقلق حول الأزمة في العراق. وبخصوص هذا الأمر، فقد أكدت ضرورة وجود تركيز دولي جديد لاتخاذ إجراءات سياسية واقتصادية ودبلوماسية. وعلينا أن نسلّط الأنظار على عناصر السلام الدائم والمتمثلة في دعم وحدة العراق، وتشجيع المصالحة والوفاق، وإعادة الثقة في العملية السياسية. والعراقيون جميعاً بحاجة إلى تأكيد واضح بأن العراق الجديد سيحترم حقوقهم وأمنهم. ويجب إشراك المجموعات الاجتماعية الرئيسية الثلاث، بمّنْ فيها المجموعة السنّية، في العملية السياسية.
وعلينا أن نقدّم دعمنا للشعب اللبناني في نضاله للحفاظ على وحدته وسيادته.
وبالطبع، فإن استمرار انتشار الأسلحة النووية يُعتبر تحدّياً عالمياً يوُجِب على بلدينا استخدام كل الوسائل الدبلوماسية لمجابهته.
أصدقائي،
إن تاريخ بلدكم يحمل رسالة هامة: قوامها أن السلام والازدهار يمكن تحقيقهما، حتى بعد نشوب النزاعات الطويلة المدمّرة.
وإحساسكم بالمسؤولية وحكمتكم أعطياكم دوراً هاماً في الازدهار والتقدم في الشرق الأوسط. واليوم، دخلنا حقبةّ لا نقتصر فيها على الترحيب بما تبديه اليابان من قيادة، بل نتجاوز ذلك إلى اعتبار هذه القيادة أساسية وهامة. وكشركاء وأصدقاء، يمكننا أن نجد سبيلاً للخروج من المخاطر التي نواجهها في أيامنا هذه ... والتحرّك قُدُماً إلى مستقبل يظلّله السلام والوعد.
وأشكركم شكراً جزيلاً.